كان العالم الإنجليزي السير فرانسيز جالتون (١٨٢٢- ١٩١١ م) والذي كان اول من اكتشف بصمات الأصابع، مولعاً بدراسة الأرقام، كان مؤمناً بأن لديها الكثير لتقوله ونسمعه. اتحدّ شغفه بالأرقام مع ثرائه الكبير ليجعلاه يبني معملاً خاصاً للقياسات مع زميله ويلدون وتلميذه كارل بيرسون اسماه “Biometrika” واصبح مجلة علمية فيما بعد والتي بالمناسبة ما زالت موجودة حتى الآن.
حاول دراسة الأرقام بشتى الطرق. كان يحاول في نفس الوقت إثبات نظرية داروين التي تنص على “أن البقاء للأصلح” والتي وضعت عام ١٨٦٦ م؛ لهذا حاول أن يثبت أن الأذكياء ينجبون الأذكياء والأغبياء ينجبون مثلهم، فقام بجمع بيانات الأطفال الأذكياء وآبائهم ليري إن كان للوراثة دخل بالأمر، لكن التجربة لم تكتمل فقد قيّده عدم وجود “مقياس للذكاء” معروف في ذلك الوقت، حيث أنه لم يظهر مقياس الذكاء سوى بعدها بحوالي الخمسين عاماً، فعمد إلى تجربة أخرى.
في تلك الأخرى استطاع جالتون ومساعديه جمع أطوال العديد من الأطفال وكذلك أطوال آبائهم. كذلك أيضا جمعوا الأوزان ، وخصائص بعض العظام، وبعض المعلومات العائلية. ثم رصدوا تلك البيانات جميعها في جداول لدراسةٍ أعمق.
بعد الكثير والكثير من الفحص الذي كان يهدف لإيجاد علاقة بين أطوال الآباء والأبناء، كان يتوقع جالتون أن الآباء الطوال سينجبون أولاداً طوال القامة أيضا والعكس صحيح. لكن حدث شئ لم يكن يتوقعه جالتون سيكون سبباً في تغييرٍ محوري في عالم الإحصاء.
وجد جالتون أن الآباء طوال القامة جدا ينجبون أولاداً أقصر منهم وكذلك الآباء القصيرين جدا ينجبون أولادا أطول منهم. كما لو كانت هناك قوة خفية تجبر القيم دوماً على النزوع إلى المركز، وهذه هي الحقيقة.
فكّر معي قليلاً، ماذا لو أن الآباء طويلي القامة أنجبوا أولاداً أطول منهم، وأحفادهم سيكونون أطول من أولادهم. والعكس سيحدث بين قصيري القامة ليصبح كل جيل أقصر من سابقه، سنجد في النهاية أن الأطوال أصبحت متطرفة لينقسم الناس نصفين نصف طويل جدا وآخر قصير جداً، وتنعدم الأطوال المتوسطة!!!
بالطبع هذا لا يحدث، بفضل النزوع الى المركز السابق ذكره، سمّاه جالتون حينها
“الانحدار الى المركز” ” Regression to mean”
الذي سيصطلح عليه علماء الاحصاء بعدها فيما يعرف ب
“النزعة المركزية Central Tendency “
تلك القوة استطاع جالتون أن يجد لها تعريف. باستخدام بعض العمليات الرياضية والاحصائية، فوضع الشكل المبدأى لما يسمى
“معامل الارتباط” ” Coefficient of correlation”
والذي طوّره بعده كارل بيرسون ليكون سبباً في تغيير تاريخ كل العلوم تقريبا في القرن العشرين.
هذه المعادلة غيرت فكر العلماء و جذبت عقولهم من الارقام الثابتة والمحددة إلي مدار واسع من النتائج التى تقع تحت التوزيع العشوائي وكلها تعتبر صحيحة. وقد كانوا قبل ذلك يقتنعون بأن لكل تجربة نتيجة ثابتة واحدة وهذا غير صحيح على أرض الواقع.
اليوم لم تعد للاشياء قيمة مادية فقط في العلم، بل أصبح هناك معادلات وحسابات، وتوزيع للارقام والقيم المحتملة. اليوم يعمد الأطباء إلى استخدام نموذجا إحصائيا ليتوقعوا النتائج المحتملة وإلى أي مدى سيكون الدواء فعّالا. علماء الاجتماع والاقتصاد يستخدمون النماذج الاحصائية والتوزيع العشوائي”Randomisation” لوصف تصرفات البشر. حتى علماء الفيزياء يلجأون للتوزيع عند وصف الجسيمات الذرية.
أيضاً كان اكتشاف جالتون للانحدار الي المركز، والذي عُرف فيما بعد بال
“central tendency “
: مفتاحاً لدخول البشر
عالم الذكاء الاصطناعي Artifical Intellegence
بكل تطبيقاته اليوم الذي تمسّ كل شئ في حياتنا اليومية ، بداية من الهاتف والتلفاز، والتطبيقات، وتوقع الطقس، وعالم المال والأعمال، والطب والزراعة والصناعة والكثير الكثير مما لا يسعنا احصاؤه في بضعة حروف.
كل ذلك بفضل علم الاحصاء، والتوزيع العشوائي والنزعة المركزية وغيرها من المفاهيم الاحصائية التي تطورت عبر الزمن كانت شرارتها تجربة لقياس الطول وشغف عالم بالأرقام ومحاولة لاثبات نظرية.