تحدثنا في هذه السلسلة منذ بدايتها على كثير من العلماء. اليوم سنخص بالذكر العالم الرياضي رونالد فيشر، والذي سبق ذكره في حلقات سابقة.
حياة العالم رونالد فيشر لم تكن بالهينة أبدًا، بل تعرَّض للكثير والكثير من الاحباطات والاخفاقات فكانت حياته مستمرة في الصعود أحيانا والهبوط أحيانا كثيرة. لم يستطع فيشر العمل في مجاله كثيرًا، انتقل من العمل كاحصائي، الى العمل في مهنة التدريس، ثم انتهى به الحال الي العمل في مزرعة.
لا تبتأسوا، رب ضارة نافعة، كانت تلك المزرعة نقطة تحوّل في حياة فيشر و سببًا في اكتشافات مثيرة سنعرضها سويًا.
ظلت شخصية الاحصائي بداخله طوال فترة عمله، كامنة بانتظار الفرصة للظهور. تلك الفرصة تمثلت في ثلاثة أوراق بحثية هامة سنعرضها هنا تباعًا.
الورقة الأولى كانت بعنوان Studies in Crop Variation I
في هذه الورقة عمل فيشر بمفرده، على عكس الورقتين الأخرتين والتى شاركه فيهما مؤلفون آخرون. عمد فيشر في ورقته تلك الى عمليات حسابية معقدة لأرقام كبيرة، كان مساعده الوحيد فيها آلة حاسبة بدائية الصنع تسمى (مليونير). سميت بذلك لانها كانت قادرة على اظهار نتائج تحتوي على خانة الملايين.
ورغم وجود (المليونير)، عمل فيشر بمجهود منقطع النظير في حساباته، يكفي أن نذكر أن الجدول الواحد من جداوله استغرق قرابة ال١٨٥ ساعة لاستكماله، واجمالي عدد الجداول كان ١٥، مما يعني ال ٨ اشهر من العمل المتواصل، بمعدل١٢ ساعة عمل يوميًا. ناهيك عن الوقت المستغرق في التحقق من النظريات، وتنظيم البيانات، وتحليلها، وتصحيح الاخطاء ….الخ.
ما فعله فيشر في هذه الدراسة تحديدًا هو الاتجاه الزمني أو ما يعرف الآن ب Time trend
حيث وضع اجمالي ناتج محصول القمح في احدى المزارع مع الزمن في رسم بياني واحد يوضح تغير ناتج المحصول بمرور الزمن، وهذا …اكتشاف!
رسمه لذلك المنحنى فتح بابًا للتساؤلات مما أفضى إلى دراسة الاسباب والنتائج المسببة لشكل المنحنى، وتلك كانت سابقة من نوعها.
ذلك المنحنى الذي رسمه فيشر، استطاع أن يقسمه إلى ٣ أجزاء رئيسية. الجزء الأول كان ثابتًا في نزول، الجزء الثاني كانت تحدث به بعض التغييرات البطيئة جدًا، أما الثالت كان يتغير بسرعة شديدة نظرًا لتغيرات المناخ.
بعد دراسة مفصلة والبحث وراء الأسباب التي جعلت المنحنى يأخذ ذلك الشكل، استطاع فيشر استيضاح الأمر.
في الجزء الأول والذي كان ثابتًا في نزول، كان سببه أنهم كانوا يستخدمون روث البهائم فقط في تسميد الأرض والتي تفتقر لبعض المعادن والأملاح، وامتنعوا عن استخدام المخصبات الصناعية، مما أدى إلى انخفاض في كمية المحصول.
أما الجزء الثاني والذي كان يتغير ببطء شديد، مرة صاعدًا ومرة هابطًا، بعد البحث تبيّن أن السبب هو عمالة الأطفال. حيث أن الأطفال كانوا معتادين على العمل في المزرعة بعد الظهيرة لإزالة الأعشاب الضارة، وبالتالي ينمو المحصول ويزدهر ويزيد الناتج. لكن بعدها، صدر قانون يمنع الاطفال من العمل، فعادت الاعشاب الضارة للنمو وقلّ المحصول. بعدها قام مدير إحدى المدارس الداخلية للفتيات والذي كان مؤمنًا بأهمية النشاط الخارجي بالاتفاق مع صاحب المزرعة أن تأتيه الفتيات للعمل في الحقل أيام السبت من كل أسبوع صباحًا، وباقي الايام بعد الظهيرة. فاختفت الحشائش الضارة وازدهر المحصول مجددًا. بعدها بفترة، عادت تلك الأعشاب، أتستطيعون التخمين لماذا؟
كما توقعتم، توفي مدير المدرسة وامتنعت الفتيات عن العمل في الحقل.
الشاهد في الأمر أن دراسة الاتجاه الزمني أتاحت لفيشر رؤية واضحة حول سلوك حدث معين في فترة زمنية معينة. مما أتاح له أيضًا البحث والوصول للأسباب. ذلك كان الهامًا كبيرًا وشعلة نور لكل من تلاه. فقد الهمت العلماء لفحص أمواج المحيط الهادئ في الولايات المتحدة فتوقعوا حدوث عواصف في المحيط الهندي، مكَّنَهم أيضًا من التفرقة بين الانفجارات الذرية تحت الأرض والزلازل، كذلك جعلهم قادرين على رصد التغيرات المرضية في رسم القلب…..وتتسع القائمة للمزيد والمزيد كل يوم.